فصل: تفسير الآيات (34- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (30- 33):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
قوله: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ عَبْدُ الله} كلام مبتدأ لبيان شرك أهل الكتابين، و{عزير} مبتدأ و{ابن الله} خبره، وقد قرأ عاصم والكسائي {عزير} بالتنوين، وقرأ الباقون بترك التنوين لاجتماع العجمة والعلمية فيه. ومن قرأ بالتنوين فقد جعله عربياً؛ وقيل: إن سقوط التنوين ليس لكونه ممتنعاً بل لاجتماع الساكنين، ومنه قراءة من قرأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد} [الإخلاص: 1، 2]. قال أبو عليّ الفارسي: وهو كثير في الشعر، وأنشد ابن جرير الطبري:
لتجديني بالأمير برّا ** وبالقناة لامرا مكرّاً إذا غطيت السلمى فرّاً

وظاهر قوله: {وَقَالَتِ اليهود} أن هذه المقالة لجميعهم. وقيل: هو لفظ خرج على العموم، ومعناه: الخصوص لأنه لم يقل ذلك إلا البعض منهم.
وقال النقاش: لم يبق يهودي يقولها؟ بل قد انقرضوا. وقيل: إنه قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم، فنزلت الآية متضمنة لحكاية ذلك عن اليهود؛ لأن قول بعضهم لازم لجميعهم. قوله: {وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله} قالوا هذا لما رأوا من إحيائه الموتى مع كونه من غير أب، فكان ذلك سبباً لهذه المقالة، والأولى أن يقال: إنهم قالوا هذه المقالة لكون في الإنجيل وصفه تارة بابن الله وتارة بابن الإنسان، كما رأينا ذلك في مواضع متعددة من الإنجيل، ولم يفهموا أن ذلك لقصد التشريف والتكريم، أو لم يظهر لهم أن ذلك من تحريف سلفهم لغرض من الأغراض الفاسدة. قيل: وهذه المقالة إنما هي لبعض النصارى لا لكلهم.
قوله: {ذلك قَوْلُهُم بأفواههم} الإشارة إلى ما صدر عنهم من هذه المقالة الباطلة. ووجه قوله بأفواههم مع العلم بأن القول لا يكون إلا الفم. بأن هذا القول لما كان ساذجاً ليس فيه بيان، ولا عضده برهان، كان مجرّد دعوى، لا معنى تحتها فارغة صادرة عنهم صدور المهملات التي ليس فيها إلا كونها خارجة من الأفواه، غير مفيدة لفائدة يعتدّ بها. وقيل: إن ذكر الأفواه لقصد التأكيد، كما في: كتبت بيدي ومشيت برجلي، ومنه قوله تعالى: {يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79]. وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38].
وقال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه لم يذكر قولاً مقروناً بذكر الأفواه والألسن، إلا وكان قولاً زوراً كقوله: {يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167]، وقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5]، وقوله: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11].
قوله: {يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ} المضاهاة: المشابهة، قيل: ومنه قول العرب امرأة ضهياء، وهي التي لا تحيض لأنها شابهت الرجال. قال أبو عليّ الفارسي: من قال: {يضاهئون} مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء فقوله خطأ؛ لأن الهمزة في ضاهأ أصلية، وفي ضهياء زائدة كحمراء، وأصله يضاهئون وامرأة ضهياء.
ومعنى مضاهاتهم لقول الذين كفروا فيه أقوال لأهل العلم: الأوّل: أنهم شابهوا بهذه المقالة عبدة الأوثان في قولهم: واللات والعزى ومناة بنات الله. القول الثاني: أنهم شابهوا قول من يقول من الكافرين: إن الملائكة بنات الله، الثالث: أنهم شابهوا أسلافهم القائلين بأن عزير ابن الله وأن المسيح ابن الله. قوله: {قاتلهم الله} دعاء عليهم بالهلاك؛ لأن من قاتله الله هلك، وقيل: هو تعجب من شناعة قولهم. وقيل: معنى قاتلهم الله: لعنهم الله، ومنه قول أبان بن تغلب:
قاتلها الله تلحاني وقد علمت ** أني لنفسي إفسادي وإصلاحي

وحكى النقاش أن أصل قاتل الله: الدعاء. ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشرّ وهم لا يريدون الدعاء. وأنشد الأصمعي:
يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني ** وأخبر الناس أني لا أباليها

{أنى يُؤْفَكُونَ} أي: كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل.
قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله} الأحبار: جمع حبر. وهو الذي يحسن القول، ومنه ثوب محبر. وقيل: جمع حبر بكسر الحاء. قال يونس: لم أسمعه إلا بكسر الحاء.
وقال الفراء: الفتح والكسر لغتان، وقال ابن السكيت: الحبر بالكسر العالم، والحبر بالفتح العالم. والرهبان: جمع راهب مأخوذ من الرهبة، وهم علماء النصارى كما أن الأحبار علماء اليهود. ومعنى الآية: أنهم لما أطاعوهم فيما يأمرونهم به، وينهونهم عنه كانوا بمنزلة المتخذين لهم أرباباً، لأنهم أطاعوهم كما تطاع الأرباب، قوله: {والمسيح ابن مَرْيَمَ} معطوف على رهبانهم: أي اتخذه النصارى رباً معبوداً، وفيه إشارة إلى أن اليهود لم يتخذوا عزيراً رباً معبوداً.
وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدى بقوله ويستنّ بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص، وقامت به حجج الله وبراهينه، ونطقت به كتبه وأنبياؤه، هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، للقطع بأنهم لم يعبدوهم بل أطاعوهم، وحرّموا ما حرّموا، وحللوا ما حللوا، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة، وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة، والتمرة بالتمرة، والماء بالماء، فيا عباد الله، ويا أتباع محمد بن عبد الله، ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانباً، وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما وطلبه منهم للعمل بما دلا عليه وأفاده. فعلتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق، ولم تعضد بعضد الدين، ونصوص الكتاب والسنة، تنادي بأبلغ نداء، وتصوّت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه، فأعرتموهما آذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وأفهاماً مريضة، وعقولاً مهيضة، وأذهاناً كليلة، وخواطر عليلة، وأنشدتم بلسان الحال:
وما أنا إلا من غزية إن غوت ** غويت وإن ترشد غزية أرشد

فدعوا- أرشدكم الله وإياي- كتباً كتبها لكم الأموات من أسلافكم، واستبدلوا بها كتاب الله، خالقهم وخالقكم، ومتعبدهم ومتعبدكم، ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاؤوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم، وقدوتكم وقدوتهم، وهو الإمام الأوّل: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
دعوا كل قول عند قول محمد ** فما آبن في دينه كمخاطر

اللهم هادي الضالّ، مرشد التائه، موضح السبيل، اهدنا إلى الحق وأرشدنا إلى الصواب، وأوضح لنا منهج الهداية.
قوله: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا} هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً، والحال: أنهم ما أمروا إلا بعبادة الله وحده، أو ما أمر الذين اتخذوهم أرباباً من الأحبار والرهبان إلا بذلك، فكيف يصلحون لما أهلوهم له من اتخاذهم أرباباً. قوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} صفة ثانية لقوله: {إلها} {سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزيهاً له عن الإشراك في طاعته وعبادته.
قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} هذا كلام يتضمن ذكر نوع آخر من أنواع ضلالهم وبعدهم عن الحق، وهو ما راموه من إبطال الحق بأقاويلهم الباطلة، التي هي مجرّد كلمات ساذجة، ومجادلات زائفة، وهذا تمثيل لحالهم في محاولة إبطال دين الحق، ونبوّة نبيّ الصدق، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم قد أنارت به الدنيا، وانقشعت به الظلمة، ليطفئه ويذهب أضواءه {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} أي: دينه القويم.
وقد قيل: كيف دخلت إلا الاستثنائية على يأبى، ولا يجوز كرهت أو بغضت إلا زيداً. قال الفراء: إنما دخلت لأن في الكلام طرفاً من الجحد.
وقال الزجاج: إن العرب تحذف مع (أبى)، والتقدير: ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره.
وقال علي بن سليمان: إنما جاز هذا في أبى، لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي، قال النحاس: وهذا أحسن. كما قال الشاعر:
وهل لي أمّ غيرها إن تركتها ** أبى الله إلا أن أكون لها ابنا

وقال صاحب الكشاف: إن أبر قد أجرى مجرى لم يرد: أي ولا يريد إلا أن يتمّ نوره. قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} معطوف على جملة قبله مقدرة: أي أبى الله إلا أن يتمّ نوره، ولو لم يكره الكافرون ذلك، ولو كرهوا، ثم أكد هذا بقوله: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} أي: بما يهدي به الناس من البراهين والمعجزات، والأحكام التي شرعها الله لعباده، {وَدِينِ الحق} وهو: الإسلام، {لِيُظْهِرَهُ} أي: ليظهر رسوله، أو دين الحق بما اشتمل عليه من الحجج والبراهين، وقد وقع ذلك ولله الحمد {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} الكلام فيه كالكلام في {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} كما قدّمنا ذلك.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال: أتى رسول الله سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وأبو أنس، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقت تركت قبلتنا وأنت لا تزعم عزير ابن الله؟ فأنزل الله: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عنه، قال: كنّ نساء بني إسرائيل يجتمعن بالليل فيصلين ويعتزلن ويذكرن ما فضل الله به بني إسرائيل وما أعطاهم، ثم سلط عليهم شرّ خلقه بختنصر، فحرق التوراة وخرّب بيت المقدس، وعزير يومئذ غلام، فقال عزير: أو كان هذا؟ فلحق بالجبال والوحش، فجعل يتعبد فيها، وجعل لا يخالط الناس، فإذا هو ذات يوم بامرأة عند قبر وهي تبكي، فقال: يا أمه اتقي الله واحتسبي واصبري، أما تعلمين أن سبيل الناس إلى الموت؟ فقالت: يا عزير أتنهاني أن أبكي، وأنت قد خلفت بني إسرائيل، ولحقت بالجبال والوحش؟ ثم قالت: إني لست بامرأة ولكني الدنيا، وإنه سينبع في مصلاك عين وتنبت شجرة، فاشرب من ماء العين وكل من ثمر الشجرة، فإنه سيأتيك ملكان فاتركهما يصنعان ما أرادا، فلما كان من الغد نبعت العين ونبتت الشجرة، فشرب من ماء العين وأكل من ثمرة الشجرة، وجاء ملكان ومعهما قارورة فيها نور فأوجراه ما فيها فألهمه الله التوراة، فجاء فأملاه على الناس، فعند ذلك قالوا عزير ابن الله، تعالى الله عن ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، أيضاً فذكر قصة وفيها: أن عزير سأل الله بعد ما أنسى بني إسرائيل التوراة ونسخها من صدورهم، أن يردّ الذي نسخ من صدره، فبينما هو يصلي نزل نور من الله عزّ وجلّ فدخل جوفه، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فأذن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردّها إليّ.
وأخرج أبو الشيخ، عن كعب، قال: دعا عزير ربه أن يلقي التوراة كما أنزل على موسى في قلبه، فأنزلها الله عليه، فبعد ذلك قالوا: عزير ابن الله.
وأخرج ابن مردويه، وابن عساكر، عن ابن عباس، قال: ثلاث أشك فيهن: فلا أدري عزير كان نبياً أم لا؟ ولا أدري ألعن تبع أم لا؟ قال: ونسيت الثالثة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه، في قوله: {يضاهئون} قال: يشبهون.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، في قوله: {قاتلهم الله} قال: لعنهم الله، وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن.
وأخرج ابن سعد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن عدي بن حاتم، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله} فقال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه».
وأخرجه أيضاً أحمد وابن جرير.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في سننه، عن أبي البحتري قال: سأل رجل حذيفة فقال: أرأيت قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله} أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الضحاك، قال: أحبارهم: قراؤهم، ورهبانهم: علماؤهم.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، قال: الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ مثله.
وأخرج أيضاً عن الفضيل بن عياض قال: الأحبار: العلماء، والرهبان: العباد.
وأخرج أيضاً عن السديّ في قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} قال: يريدون أن يطفئوا الإسلام بأقوالهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك في قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} يقول: يريدون أن يهلك محمد وأصحابه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة، في الآية قال: هم اليهود والنصارى.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} يعني: بالتوحيد والإسلام والقرآن.

.تفسير الآيات (34- 35):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}
لما فرغ سبحانه من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان المتخذين لهم أرباباً ذكر حال المتبوعين فقال: {إِنَّ كَثِيراً مّنَ الأحبار} إلى آخره، ومعنى أكلهم لأموال الناس بالباطل: أنهم يأخذونها بالوجوه الباطلة كالرشوة، وأثبت هذا للكثير منهم؛ لأن فيهم من لم يلتبس بذلك، بل بقي على ما يوجبه دينه من غير تحريف ولا تبديل، ولا ميل إلى حطام الدنيا، ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان من علماء الإسلام من لا يأتي عليه الحصر في كل زمان، فالله المستعان، قوله: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي: عن الطريق إليه وهو دين الإسلام، أو عن ما كان حقاً في شريعتهم قبل نسخها بسبب أكلهم لأموال الناس بالباطل. قوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} قيل: هم المتقدّم ذكرهم من الأحبار والرهبان، وإنهم كانوا يصنعون هذا الصنع. وقيل: هم من يفعل ذلك من المسلمين، والأولى حمل الآية على عموم اللفظ، فهو أوسع من ذلك، وأصل الكنز في اللغة: الضم والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة. قال ابن جرير: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها. انتهى. ومنه ناقة كناز: أي مكتنزة اللحم، واكتنز الشيء: اجتمع.
واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزاً أم لا؟ فقال قوم: هو كنز، وقال آخرون: ليس بكنز. ومن القائلين بالقول الأوّل: أبو ذر. وقيده بما فضل عن الحاجة. ومن القائلين بالقول الثاني: عمر بن الخطاب، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأبو هريرة، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم، وهو الحق لما سيأتي من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز.
قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} اختلف في وجه إفراد الضمير مع كون المذكور قبله شيئين، هما: الذهب والفضة، فقال ابن الأنباري: إنه قصد إلى الأعمّ الأغلب، وهو الفضة قال: ومثله قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة: 45] ردّ الكناية إلى الصلاة لأنها أعمّ، ومثله قوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] أعاد الضمير إلى التجارة؛ لأنها الأهمّ. وقيل: إن الضمير راجع إلى الذهب والفضة معطوفة عليه، والعرب تؤنث الذهب وتذكره. وقيل: إن الضمير راجع إلى الكنوز المدلول عليها بقوله: {يَكْنِزُونَ} وقيل: إلى الأموال. وقيل: للزكاة، وقيل: إنه اكتفى بضمير أحدهما عن ضمير الآخر مع فهم المعنى، وهو كثير في كلام العرب، وأنشد سيبويه:
نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راض والرأي مختلف

ولم يقل: راضون، ومثله قول الآخر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ** برياً ومن أجل الطوى رماني

ولم يقل: بريين، ومثله قول حسان:
إن شرخ الشباب والشعر الأس ** ود ما لم يعاض كان جنونا

ولم يقل: يعاضا. وقيل: إن إفراد الضمير من باب الذهاب إلى المعنى دون اللفظ؛ لأن كل واحد من الذهب والفضة جملة وافية، وعدّة كثيرة، ودنانير ودراهم، فهو كقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9]. وإنما خص الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال لكونهما أثمان الأشياء. وغالب ما يكنز وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز، قوله: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} هو خبر الموصول، وهو من باب التهكم بهم كما في قوله: تحية بينهم ضرب وجيع. وقيل: إن البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة لتأثيره في القلب، سواء كان من الفرح أو من الغمّ.
ومعنى {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ} أن النار توقد عليها وهي ذات حمى وحرّ شديد. ولو قال يوم تحمي: أي الكنوز لم يعط هذا المعنى. فجعل الإحماء للنار مبالغة. ثم حذف النار وأسند الفعل إلى الجارّ، كما تقول رفعت القصة إلى الأمير، فإن لم تذكر القصة قلت رفع إلى الأمير، وقرأ ابن عامر {تحمى} بالمثناة الفوقية، وقرأ أبو حيوة {فيكوى} بالتحتية. وخص الجباه، والجنوب والظهور؛ لكون التألم بكيها أشدّ لما في داخلها من الأعضاء الشريفة. وقيل: ليكون الكيّ في الجهات الأربع: من قدّام، وخلف، وعن يمين، وعن يسار. وقيل: لأن الجمال: في الوجه، والقوّة: في الظهر والجنبين، والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوّة. وقيل غير ذلك مما لا يخلو عن تكلف. قوله: {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ} أي: يقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم: أي كنزتموه لتنفتعوا به، فهذا نفعه على طريقة التهكم والتوبيخ {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} ما: مصدرية أو موصولة: أي ذوقوا وباله، وسوء عاقبته، وقبح مغبته، وشؤم فائدته.
وقد أخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، في قوله: {إِنَّ كَثِيراً مّنَ الأحبار والرهبان} يعني: علماء اليهود والنصارى {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل} والباطل: كتب كتبوها لم ينزلها الله فأكلوا بها أموال الناس، وذلك قول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله} [البقرة: 79].
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} قال: هؤلاء الذين لا يؤدّون الزكاة من أموالهم، وكل ما لا تؤدي زكاته كان على ظهر الأرض أو في بطنها فهو كنز، وكل مال أدّيت زكاته، فليس بكنز، كان على ظهر الأرض أو في بطنها.
وأخرجه عنه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبو الشيخ، من وجه آخر.
وأخرج مالك، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عمر، نحوه.
وأخرج ابن مردويه، عنه، نحوه مرفوعاً.
وأخرج ابن عديّ، والخطيب عن جابر، نحوه مرفوعاً أيضاً.
وأخرجه ابن أبي شيبة، عنه، موقوفاً.
وأخرج أحمد في الزهد، والبخاري، وابن ماجه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عمر، في الآية قال: إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة جعلها الله طهرة للأموال، ثم قال: ما أبالي لو كان عندي مثل أحد ذهباً أعلم عدده وأزكيه، وأعمل فيه بطاعات الله؟ وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو الشيخ، عن عمر بن الخطاب قال: ليس بكنز ما أدّى زكاته.
وأخرج ابن مردويه، والبيهقي عن أمّ سلمة، مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، في مسنده، وأبو داود، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحد منا لولده ما لا يبقى بعده، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبيّ الله، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية، فقال: «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم»، فكبر عمر، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته» وقد أخرجه أحمد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، عن سالم بن أبي الجعد من غير وجه عن ثوبان.
وحكى البخاري أن سالماً لم يسمعه من ثوبان.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} قال: هم أهل الكتاب، وقال: هي خاصة وعامة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عليّ بن أبي طالب، قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوقها كنز.
وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، عن أبي أمامة قال: حلية السيوف من الكنوز ما أحدّثكم إلا ما سمعت.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عراك بن مالك، وعمر بن عبد العزيز، أنهما قالا في قوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} إنها نسختها الآية الأخرى: {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً} [التوبة: 103] الآية.
وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا جعل لها يوم القيامة صفائح، ثم أحمى عليها في نار جهنم، ثم يكوى بها جنباه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين الناس فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار».
وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن زيد بن وهب، قال: مررت على أبي ذرّ بالربذة، فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ فقال: كنا بالشأم فقرأت {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} الآية، فقال معاوية: ما هذه فينا، ما هذه إلا في أهل الكتاب، قلت: إنها لفينا وفيهم.